دفاعاً على أداب السُّجون وليس بوعشرين …!
بقلم : محمد القاسمي
لم أستوعب لحدود اللحظة رفض المؤسسة السِّجنية منح الصحافي توفيق بوعشرين يومياته ومذكِّراته التي خَطَّتها أنامله داخل زنزانته الانفرادية وهو يمارس هوايته المفضلة الكتابة … ، شخصيا لا يمكنني في مثل هذا الموقف إلا أن أتقدم بجزيل الشكر ووافر الامتنان للمشرف الاجتماعي بالسجن المحلي تولال 2 ، ومدير المؤسسة السِّجنية ، ورئيس المعقل ، وكل من ساهم من قريب أو بعيد في تمكيني من إخراج مايناهز الألف ورقة …!
كلها أشياء تتعلق بسيرتي الذاتية وأشياء أخرى فلسفية ودينية وسياسية واجتماعية ، ولكن كلها كانت في إطار المسموح به ، وعندما كنت أودُّ أن أُأَرِّخ لشيء ضد التيار فكنت أستعمل أسلوب روائي ينبني على لغة المرموز عوض المعلوم وهو ما شفع لي ورُبَّما … ، ومن هنا لابدَّ أن أشكر شقيقتي الصغرى مريم القاسمي التي كانت تزودني بالأوراق وأقلام الحبر وموظفو الجناح الانفرادي 1 كل بإسمه وصفته ، الذين كانوا يسارعون كلَّ مرة لتذكير الإدارة ومطالبتها بمنحي الأشياء التي تشغلني وتجعلني أقضي وقتي بكل أريحية ، حتى لا يسمعون صوتي ولا يتسلمون شكاياتي ومطالبي التي تتضمن لغة تصعيدية عندما يتعلق الأمر بمنعي حق من حقوقي وهو حقي في الثقافة والفكر والكتابة …، ا
الشيء الوحيد الذي كان يجعلني أعيش على أعصابي ويضيِّق علي زنزانتي ويثقل ساعات يومي ويشعل النار بكُليَّاتي ، عندما تتأخر الإدارة في إمدادي بالكتب التي كنت أتوصل بها وبغزارة خلال كل زيارة والتي كانت بالعشرات بل بالمئات مما جعلني أضطر لوضع الكتب في مكان آخر غير زنزانتي … ، وحسب موظفوا المؤسسة السجنية نفسها مبادرتي بإدخال الكتب بكمِّ هائل شيء غير مسبوق في تاريخ المؤسسة السجنية لكن كان هناك الإجماع أنها سنَّة محمودة وتجعل الجميع لا يمكنه إلا أن يحترم إرادة نزيل فضل أو قرَّر أن يقضي عقوبته قراءة وكتابة ، وأذكر أن الكل ينام وأبقى حتى ساعات متأخرة من الليل أنتشي بالصمت وهرق كوب من القهوة تلو الآخر ببطني حتى مطلع الفجر ، وأحيانا حتى مطلع الشمس ، وأنا أكتب أشياء لم أنشرها بعد ، ورُبما غير صالحة للعامة …، لكنَّني سأنشرها مجموعة في كتاب وقد عزمت على ذلك .
سبق ونشرت شذرات ومقتطفات من يومياتي السِّجنية لكنني تيقنت أنها لا تصلح للكل ولكن تصلح لمن أرادها بما في ذلك أصدقاء صحفيين ومفكرين ومثقفين وأساتذة جامعيين وشيوخ وعلماء في مجالات مختلفة ، الكل يريد أن يقرأ لرجل خاض تجربة ومحنة جعلته يعيد السؤال : من نحن ؟! ولماذا نحن هنا ؟! وإلى أين ، بنفس صوفي وفلسفي وجودي وأسلوب بلاغي يغريني أنا عندما أعيد القراءة لبعض ما كتبته نفس اليد التي تكتب الآن … ، ولهذا أتمنى أن تُفرج المندوبية العامة لإدارة السجون وإعادة الإدماج عن أوراق بوعشرين ، لأن أجمل الأداب أداب السُّجون ، فأنا أيضا أشعر بالدهشة وأنا أقرأ ما كتبته وراء القضبان ، وكأنني لست أنا الذي هو الآن ، لعله شخص آخر ، كان خارج الزمكان …