بوعشرين يكتب: الزفزافي وطائرة المخزن

قليلون هم من يعرفون أن المعتقل، عندما تُقفل عليه بوابة الزنزانة في الرابعة بعد الظهر ولا تعود لتفتح إلا بعد 18 ساعة متواصلة من الحجر صباح يوم الغد ،لا يفكر هذا الإنسان البائس في نفسه ولا في حريته التي تتبخر يوم ينطق قاضٍ بخفة يُحسد عليها بحكم ثقيل في قاعة محكمة كئيبة خافتة الأضواء، وكأنها تخاف من النور.

أكبر ما يشغل قلب وعقل المعتقل هو أحوال من ترك وراءه من عائلته: صحة الأم أو الأب، سلامة الأطفال والزوجة. أكثر خبر يرعبه هو مرض أحد من أصوله أو فروعه، أو احتمال أن يسمع وفاة فرد من عائلته.

هذا للتوضيح فقط؛ فالسجن تجربة خاصة تعاش ولا تروى، أبعد الله عنكم أسوأ اختراع اكتشفه البشر لكسر إخوتهم في الإنسانية: السجن، خاصة عندما يكون لاعتبارات سياسية وليس جنائية.

في السجن تحدث أشياء فظيعة للغاية يصعب شرحها، ومن الأفضل أحيانًا ألا نحفر في الماضي، حتى وإن جرحته أظافر الذاكرة.

في بادرة إنسانية جميلة وعميقة، جرى قبل ثلاثة أيام نقل المعتقل السياسي ناصر الزفزافي من زنزانته في سجن طنجة إلى الحسيمة، لزيارة والده الذي يرقد في المستشفى بسبب تداعيات إصابته بالسرطان.

هذه الالتفاتة الإنسانية من الدولة، وليست فقط من المندوبية العامة لإدارة السجون، لأن قرارًا مثل هذا لا يُتخذ على مستوى الإدارة فقط، بل هو قرار سياسي من مستويات أعلى.

(من تجربتي في السجن، حيث قضيت داخله قرابة سبع سنوات، أعرف أن أكثر إدارة مقيدة اليد في المغرب هي إدارة السجن. هذه المؤسسة، من فرط حذرها وحساسية القطاع الذي تديره، غالبًا ما تلجأ إلى التشدد، خاصة مع المعتقلين السياسيين وظروف عيشهم زمن الاعتقال. هناك قصص كثيرة تستحق العودة إليها لفهم ذهنية مؤسسة العقاب في المملكة الشريفة، وأنماط الدولة وأجهزتها الأمنية في مغرب ما بعد هيئة الإنصاف والمصالحة… واحسرتاه).

لكن لنترك الجزء الفارغ من الكأس، ولنتحدث عن بوادر انفراج نسبي تلوح في الأفق:

1/ السماح لناصر الزفزافي بالخروج من “قبر الحياة” والسفر مئات الكيلومترات لزيارة والده في المستشفى (شفاه الله) ليس مجرد لفتة إنسانية من مؤسسة عقابية، بل هو، في نظري ومن تجربتي، إشارة سياسية إلى قرب طي هذا الملف بما له وما عليه.

خاصة إذا استحضرنا التفاتة قضائية/ سياسية أخرى صدرت قبل أيام، تمثلت في تخفيف الحكم على النقيب محمد زيان وتحفيظ العقوبة من خمس سنوات إلى ثلاث سنوات.

هذه بوادر إيجابية، وإذا لم تُفسدها الجهات المتشددة إزاء كل انفراجة حقوقية أو سياسية في البلاد، فإنها قد تكتمل في المناسبات القادمة.

لكن يجب أخذ أمر مهم بعين الاعتبار: “تغيير الاتجاه في سياسة الدولة يتم ببطء شديد”.

خاصة عندما تكون الدولة في مرحلة فائض القوة، فإنها لا تكره شيئًا قدر ما تكره الظهور بمظهر من يحس بالضغط الداخلي أو الخارجي، ولهذا تتصلب أكثر، في الصواب وفي الخطأ.

الدولة تشبه طائرة ركاب كبيرة تبدأ في حركة النزول التدريجي إلى المطار من مسافة بعيدة جدًا، حتى لا يكاد يشعر ركابها بالنزول من السماء إلى الأرض

2/
لقد تزامنت هذه المؤشرات الإيجابية، على صغرها، مع عودة الملك محمد السادس إلى نشاطه المعتاد، وخروجه من فترة علاج لم تكن قصيرة (الحمد لله على سلامته).

هذا أمر يعرفه من يراقبون أنماط صناعة القرار في جهاز الدولة، في نظام سياسي يلعب فيه العاهل دورًا مركزيًا، وأحيانًا حصريًا، ليس فقط في اتخاذ القرار، بل أيضًا في صناعته. أي في استقبال المعلومات والمطالب والاحتجاجات والصرخات الصاعدة من المجتمع، وتجميعها ومعالجتها وفهم دلالاتها، ثم برمجتها على جدول أعمال اتخاذ القرار، وتوقيته، وشكله.

عندما يبتعد le boss لأي سبب كان، فإن جل المسؤولين في الدولة إما يؤجلون البت في الملفات التي تحتاج إلى عرض على القصر، ويتركون كل شيء معلقًا إلى حين عودة النشاط الملكي، أو -وهذا هو الأخطر- يميل المسؤولون إلى التشدد في إدارة الملفات، واتخاذ إجراءات قاسية، ظنًا منهم أن هذا هو الإجراء الأحوط، وأن التشدد يمكن علاجه باللين فيما بعد، لكن اللين قد لا يمكن علاجه بالتشدد بعد ذلك.

ولا ننسى أن كل المسؤولين، مهما كانت مواقعهم، يخشون على أنفسهم من ردود فعل سلبية على إدارة الملفات الحساسة.

ماذا يفعلون إذن؟ يبنون قراراتهم على الاتجاه العام الذي كان سائدًا قبل غياب القائد. هؤلاء المسؤولون يفعلون كما كان بعض فقهاء المسلمين يفعلون في زمن الانحطاط: يلجؤون إلى باب “سد الذرائع” وتحريم كل شيء، مخافة السقوط في تحليل حرام. إنها ذهنية وثقافة وتقاليد أكثر منها شيء آخر.

3/
هذه الالتفاتات الصغيرة في إدارة ملفات سياسية وحقوقية معقدة، جاءت استجابة لنتائج استطلاعات رأي رسمية أو عفوية. فالدولة وأجهزتها، مهما كانت توجهاتها، دائمة النظر في لوحة المؤشرات أمامها (Tableau de bord)، لا تغفل عنها، لأنها تعرف أن الشعب، كما قال الحسن الثاني يومًا بثقافته ومعرفته بأصول الحكم:

“الشعب مثل أسد في الغابة، لا تخنقه فينتفض، ولا تطلق له الحبل على الغارب فيتمرد.”

مع تحفظي على هذه الخطاطة السلطوية وفهمها للشعب وللحبل وللحرية، لكن هذه قصة أخرى.

لقد لاحظت الدولة، منذ أن أُعلن خبر إصابة والد ناصر الزفزافي بمرض السرطان، أن الرأي العام، وخاصة كتلته الكبيرة، قد تململت وبدأت تسأل في ضيق: لماذا ما زال الزفزافي ورفاقه وراء القضبان كل هذه المدة الطويلة؟ لماذا لم يطلق سراحه إلى الآن ؟

نفس الشيء وقع قبيل تخفيف الحكم على الشيخ محمد زيان، حيث تسربت إشاعة تقول بقرب صدور عفو ملكي على النقيب، فعمّ تيار من الفرح في الرأي العام، وهو ما تُرجم في تخفيف الحكم، وجعل الإفراج قريبًا، إذا لم يكن بعفو ملكي، فسيكون مع قرب إنهاء المحكومية قبل نهاية هذا العام .

الآن نعود إلى ما هو أهم:
صار الفعل ورد الفعل مباشرًا بين الدولة والرأي العام حول قضايا الاعتقال السياسي والانفراج الحقوقي، ولم يعد هناك وسطاء في إدارة هذا الملف الخطير والمعقد.

المجلس الوطني لحقوق الإنسان أصبح hors jeu، والمندوبية الوزارية لحقوق الإنسان حُصر دورها في الرد وحتى سب التقارير الدولية المنتقدة لأوضاع حقوق الإنسان، كما برع في ذلك شوقي بنيوب، غفر الله له.

مؤسسة الوسيط وُلدت ميتة، وجُعل دورها محصورًا في تلقي الشكايات وإعادة إرسالها إلى الإدارات المختلفة مع بيانات خطابية بلا مفعول على ارض الواقع .

وزارة العدل لم يعد لها أي علاقة بالسياسة الجنائية تجاه حقوق الإنسان أو حتى حقوق الحيوان، وصارت منشأة على رأسها وزير مولع حد الهوس بالبوليميك الخاوي.

أما المنظمات الحقوقية، باستثناء الجمعية المغربية لحقوق الإنسان وتجمع همم، فهي غائبة كليًا عن قضايا الاعتقال السياسي وحرية التعبير وموت الصحافة الحرة وغياب ضمانات المحاكمة العادلة.

ماذا بقي في الساحة؟
الدولة وأذرعها الدعائية تحاول صد (الصهد) عن أصحاب القرار، وغالبًا بطرق بدائية وغير فعالة تعقد المشهد اكثر مما تساهم في الحل.

والمجتمع، بقواه الحية، يتخذ من فضاء التواصل الاجتماعي ساحة للتعبير وتصريف الغضب والاحتجاج والترافع، بطرق شتى، فيها المعقول وفيها المهبول.

الفرق بين السياسي والأمني:
السياسي ينظر إلى 10 و20 و30 سنة إلى الأمام، بينما الأمني ينظر إلى 10 ساعات أو 20 يومًا أو 30 شهرًا إلى الأمام على الأكثر.

السياسي يميل إلى المرونة والتفاوض، واجتراح حلول وسطى، وعدم قطع شعرة معاوية مع أحد، لأنه يفهم أن القانون الثابت الوحيد في السياسة هو قانون “التغيير”، والباقي كله متحول.

أما الأمني، فيميل للتشدد في إدارة الملفات، ويميل إلى تكييف كل شيء في خانة الأخطار الجسيمة التي تهدد الأمن العام وتهدد أصحاب القرار وسلطاتهم الواسعة ظنا منه ان القوة هي الأداة الفعالة لحل المشاكل !.

خاتمة:
الطائرة بدأت تنزل ببطء شديد… أتمنى أن يكون هذا مؤشرًا ليس فقط على قرب حل الملفات الحقوقية العالقة منذ سنوات، بل على ميلاد سياسة عمومية جديدة في مجال الحقوق والحريات والإعلام والقضاء وتدبير الاختلاف وإطلاق حوار موطني شامل تحت عنوان : نحو نموذج عرض سياسي جديد .

قد يعجبك ايضا