التربية كفعل جمالي: قراءة في تجربة الفنان الباحث حسن زغيدة

بين المدرسة والفن، يقف حسن زغيدة ليعيد طرح السؤال الجوهري: هل يمكن للتربية أن تكون فعلًا جماليًا؟ تجربة ميدانية تكشف كيف يصبح الفن قوة رمزية تعيد الجسر بين التربية والفن. في صباح مختلف، تحوّل أحد الفصول الدراسية إلى ما يشبه مختبرًا للخيال والإبداع. لم يكن الأمر درسًا تقليديًا، بل لقاءً مميزًا جمع التلاميذ بالفنان والباحث في علوم التربية حسن زغيدة، الذي حمل معه آلته الموسيقية، وجعل منها وسيلة للتواصل وإثارة الأسئلة أكثر مما هي مجرد أداة للعزف.
الفن كتدخل اجتماعي
هذه التجربة، التي تندرج ضمن فلسفة «الفنان في المدرسة» المعروفة في فرنسا وكيبيك، تتجاوز فكرة النشاط الثقافي العابر. إنها، في جوهرها، تدخل اجتماعي وتربوي يربك البنية المألوفة للفصل الدراسي، ويعيد توزيع الأدوار داخله. فالطفل، الذي تعوّد أن يتلقى المعرفة من المعلّم في علاقة عمودية، يجد نفسه أمام نموذج مختلف: فنان يحاوره ويشاركه ويمنحه حرية الإصغاء والتعبير. وهنا نستحضر ما قاله جون ديوي (Dewey, 1934): إن الفن ليس ترفًا، بل تجربة تربوية حية تدمج الحس بالمعنى وتفتح أفق المشاركة الإنسانية.
الفن والعدالة الثقافية
من منظور بيير بورديو (Bourdieu, 1979)، يمكن قراءة هذه المبادرة كخطوة صغيرة نحو تحقيق العدالة الثقافية. فالفن، الذي ظل طويلًا حبيس النخب، يدخل اليوم إلى الفضاء التربوي ليمنح الأطفال من مختلف البيئات الاجتماعية فرصة لمس الجمال والمشاركة في إنتاجه. بهذا يتحول القسم إلى مساحة لتداول الرأسمال الثقافي، حيث يصبح الفن حقًا للجميع، لا امتيازًا لفئة محدودة. وفي ذلك، نلمس جوهر الفعل الديمقراطي في التربية: تمكين كل طفل من حقه في التذوق، والتعبير، والإبداع، بصرف النظر عن طبقته أو موقعه الاجتماعي.
إعادة تعريف دور الفنان
بالنسبة لحسن زغيدة، التجربة لا تقتصر على تقديم عرض موسيقي داخل القسم، بل تمثل فعلًا تربويًا وفكريًا متكاملًا. الفنان هنا لا يقدّم ذاته كمبدع منعزل، بل كوسيط معرفي وثقافي يربط بين العالمين: عالم الحسّ وعالم الفكرة. بهذا المعنى، يستعيد زغيدة صورة «المثقف العضوي» عند أنطونيو غرامشي (Gramsci, 1971)، الذي لا يكتفي بالقول، بل يمارس الثقافة من الداخل، في قلب المجتمع، بين الأطفال والمعلمين، ليعيد بناء وعي جديد حول معنى الفن ودوره في التربية. فهو لا يقدّم الفن كمحتوى إضافي، بل كمنهج حياة: الإصغاء، المشاركة، والخيال بوصفها قيمًا تربوية أساسية.
المدرسة كفضاء للتحول الاجتماعي
حين يدخل الفن إلى المدرسة، فإننا نلمس ما يسميه إميل دوركايم (Durkheim, 1922) بـ«التنشئة الاجتماعية الموسّعة». فالتربية لم تعد محصورة في نقل المعارف أو ضبط السلوك، بل أصبحت فضاءً لإعادة صياغة العلاقة بين الفرد والمجتمع. الفن في هذا السياق لا يُزيّن الفضاء المدرسي فحسب، بل يفتح أفقًا للتجدد الرمزي. إنه قوة ناعمة تُحرّر الطفل من الجمود، وتتيح له أن يتفاعل مع ذاته والآخرين من موقع الخلق، لا التلقي. وحين يتحوّل القسم إلى مساحة للنقاش والحسّ والخيال، فإننا نقترب من مدرسة جديدة: مدرسة ترى في الجمال طريقًا لبناء الإنسان.
الجمال كقيمة تربوية
تجربة حسن زغيدة تضعنا أمام سؤال جوهري حول معنى الجمال في التعليم. فالجمال هنا ليس زينة تُضاف إلى الدرس، بل قيمة قادرة على تحريك الوجدان وتنشيط الفكر. وقد أظهرت الأبحاث التربوية الحديثة، كما يؤكد ديوي وهايدغر من قبله، أن الانفتاح على التجربة الجمالية يجعل المتعلم أكثر حساسية تجاه محيطه وأكثر استعدادًا للتعاون والإبداع. هكذا يصبح الجمال عنصرًا تأسيسيًا في تكوين الشخصية، لا مجرد إحساس لحظي أو ترف فكري.
نحو مدرسة مغربية منفتحة
في ضوء هذه التجربة، يمكن القول إن المدرسة المغربية تقف اليوم أمام فرصة لإعادة التفكير في علاقتها بالثقافة والفنون. فالفن ليس نشاطًا جانبيًا، بل رافعة حقيقية لبناء مواطن حرّ وواعٍ بذاته وبالعالم. ما فعله حسن زغيدة داخل القسم لم يكن عرضًا موسيقيًا، بل فعلًا بيداغوجيًا يؤكد أن التربية يمكن أن تكون طريقًا إلى الحرية، وأن الفن يمكن أن يكون لغة جديدة للتعلّم والعيش المشترك. إن لحظة عزف على آلة موسيقية داخل فصل دراسي قد تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها تحمل في عمقها دلالة كبرى: أن التربية، حين تُقترن بالجمال، تتحول إلى فعل إنساني يُعيد وصل الطفل بالعالم من حوله.
تجربة حسن زغيدة تذكّرنا أن المدرسة ليست مكانًا للمعرفة فقط، بل فضاء لتذوّق الحياة نفسها حيث يمكن لصوت الفن أن يعلّمنا ما لا تقوله الدروس، وأن يُعيد للتربية معناها الأول: بناء الإنسان في انسجام مع ذاته ومع الآخرين.