حسن أوريد يكتب: الإغراءٌ الأخير للغرب
هل يستطيعُ الغربُ أن يحافظَ على “إغرائه” بعد الآن!، حسَب تعبير الأديب الفرنسيّ أندري مالرو. الغرب مفهومٌ حمّال أوجه، يفيد الرقعة الجغرافية التي انتسجت فيها الحضارة الغربيّة، ويُحيل إلى القيم التي قامت عليها تلك الحضارة، ويعني كذلك السياسة التي تأخذ بها دول الغرب، بل كان يفيدُ ما سبق أن سمّاه “سون يات سين”- أوّل رئيس لجمهورية الصين- “بالإنسان الأبيض…”، بَيدَ أنَّ مفهوم الغرب تطوّر عبر الزمن، وتحدَّد من خلال “آخر”. فقد كان يعني الأنوار والعقل، في القرن الثامنَ عشرَ ضد التقاليد، وما كان يُسمّى بالظلامية، وكان يعني “المهمة الحضاريّة” في القرن التاسعَ عشرَ، إبّان الحِقبة الاستعماريّة، وأضحى يعني “العالم الحر” ضد الفاشية والنازية، واقترن بالديمقراطيّة والسوق ضد الشيوعية، إلى أن أضحى هدفًا مطلقًا، وبروفة صالحة لكل زمان ومكان، بعد أن انتفى أي خَصم محتمل، حينما بلغ التاريخ منتهاه، حَسَب زعم فوكاياما.
على العالم وَفق النظرة التبشيرية التي سادت عقب سقوط حائط برلين، أن يأخذ بقيم الغرب، وهي القيم التي تحملها الولايات المتحدة، وعلى العالم بالتبعية أن يسير في ركابها. لكن ما لبث أن عاد التعريف يتحدّد من خلال آخر، بعد أحداث 11 سبتمبر، هو الإرهاب، أو على الأصحّ الفاشية الإسلامويَّة.. ظاهرًا، وضد الإسلام باطنًا، مثلما جهرَ بذلك بعض السياسيين وأصحاب الرأي، إذ يعلنون ما قد يسرُّه البعض.
سادَ الاعتقاد لدى كثيرٍ من النخب الفكرية والسياسية بإمكانية “التصالح”، أو التقاء الضفتَين، حسَب تعبير جاك بيرك، ولكن التّصالح والالتقاء لم يتمّا بسبب مواعيد مُخلفة. في الفترة الاستعماريّة بسبب الغطرسة، وبعدها بسبب التمزيق، والتدخل، وها نحن أولاء نشهد مرّة أخرى موعدًا مُخلفًا مع المجزرة التي تتعرّض لها غزّة، في صمتٍ مريبٍ من قِبل ساسة الغرب، وفي تواطؤ فاضحٍ من قِبل الولايات المتحدة، التي لم تضع لإسرائيل خطوطًا حمراءَ، وتأثُّم مَشين من قِبل بريطانيا، وازدواجيّة مفضوحة من قِبل فرنسا، وانصياع مطلق لساسة الغرب وأصحاب الرأي ضد “البرابرة”، وماكارثية مفضوحة ضد مَن يجهر بالحق، وينهض ضد إبادة شعب.
أذكر ها هنا ما كان كتبه القيادي التاريخيّ الجزائري الحسين آيت أحمد، عقب حرب الخليج الثّانية في مقال له بـ “لوموند” بتاريخ 10 مارس 1991، حول أنَّ تاريخَ الضفتَين تاريخ مواعيد مُخلفة، وهو يعيب على الغرب تمييزه في المواقف، أو كيله بمكيالَين، ويستشهد بهذا التاريخ الذي يعتبره ليس فقط موعدًا مُخلفًا، بل جرحًا في تاريخ الضفتَين، حينما أقدمت السلطات الفرنسية على تقتيل المتظاهرين في سطيف وقالمة بتاريخ 8 مايو 1945، في الوقت الذي كان فيه الحلفاء ينتشون بالنصر. لم يكن آيت أحمد – رحمه الله- للتذكير، منظرًا إسلاميًا.
اكتشفت النخب حينها أنّ الحرية “تنصرف” في الشمال، وأنها “ممنوعة من الصرف” في الجنوب.
ما أشبه اليوم بالبارحة!. ما الذي نراه اليوم؟ انعدام التمييز لدى الغرب. ضحايا يُصوَّرون بوجوه إنسانية، تستدرُّ العطف وتحظى بالتعاطف، وآخرون يُستكثر عليهم وضعهم الإنساني، ولا يؤخذ بوضعهم المدني، لا يشفع لهم أنّهم نساء أو أطفال أو شيوخ، ويُشكك في عدد ضحاياهم، ويعتبرون ضمنيًا- حسَب مصطلح سبق أن استعمله الجيش الأميركي في حرب الخليج- ضحايا جانبيين.
تُغتال الحقيقة، بشأنهم، أي أنهم يُغتالون مرتَين، كما الزعم بأن من قذَفَ مستشفى المعمداني هو الضحيّة نفسه؛ غسلًا ليد الجاني. يُهزأ بأرواحهم، حين تقديم العزاء لطرف، والامتناع حتى عن المطالبة بوقف التقتيل، باسم “حقّ الرد” والدفاع عن النفس.. وصمت مريع، لدى النخبة الفكرية الغربية، وسُبّة للذكاء ومنطق الأشياء الدفع بتأمين “المساعدات الإنسانية” والامتناع في الوقت نفسه عن وقف العدوان، كمن يمُنّ عليك بأنه يضمد جرحك، وهو من جرحك، أو أمر بجرحك، أو تغاضى عمن يجرحك. يضاف إلى هذا القيامةُ ضد الأمين العام للأمم المتحدة؛ لأنه قال: إن “طوفان الأقصى” لم ينهمر من عدم. ولغة مزدوجة كما في عالم جورج أورويل، إذ يُضيَّق على قناة الجزيرة، ثم يُثنى عليها من البيت الأبيض، في كلام فضفاض للتمويه عن مقتل أسرة الصحافي وائل الدحدوح.
إلى عهد قريب، فوجئنا بما كشف عنه المخبوء -عقب الحرب على أوكرانيا- عن النازحين الأوكرانيين الذين يشبهوننا، مثلما قال معلق صحافي غربي، ولا يشبهون في شيء ما اعتدناه من صور النزوح والمآسي، لدى الأفغان والعراقيين والسوريين..؟
كيف نستطيع أن نُقنع الجيل الجديد بعالميّة القيم الغربية، مثل القول الذي قدّمه أكاديمي من موريتانيا صرف جهده طوال مسيرته العلمية ليعلم طلبته النهضةَ الغربية، وفلسفة الأنوار، وقيم الحرية والمساواة، والعدالة التوزيعية، ولربما المجتمع اللائق عند ماركاليت أفيشاي، وما لا أدري من المفاهيم المجلجلة “العالمية”، على اعتبار الإنسان مفهومًا مطلقًا، لا يسوغ التعامل معه على أنه آلة، أو بضاعة، أو إنسان غير مكتمل الإنسانية..
والحقيقة أن الحرية والمساواة والكرامة والمجتمع اللائق لا تحق إلا لمن هو في الضفة الأخرى، لمن “سحنته تشبه سحنتنا، ومرجعيته تطابق مرجعيتنا”، كما في هذا القول التي نضحت به سريرة غربية.
نعود إلى ما كدنا ننساه، إلى صرخة فرانز فانون، في كتابه: “معذبو الأرض”، الذي صاغ مخيال جيلي على أرائك الجامعة، حول ازدواجيّة الغرب، أو حسب تعبيره عن أوروبا (أو الغرب) التي تتحدث عن حقوق الإنسان، وتخنقه عند أول منعرج.. كدنا ننسى هذه الحقيقة، باسم إخفاقات متتالية، وباسم الواقعية، لكن هل نستطيع أن نتمادى في التناسي أو النسيان؟ أليست أمريكا التي بشّرت بحقوق الإنسان في العراق، هي من انتهكَ حقوق الإنسان في أبي غريب وغير أبي غريب؟! أليست هي الغطاء، بل اليد، لما يُقترف ضد المدنيين، والأطفال والنساء، والصحافيين، وأسر الصحافيين، في غزة والضفة الغربية؟!
مَنْ ذا يرفض السِّلم؟! ولكن السلم من منظور واحد، أو إملاء من طرف هو دعوة للاستسلام، وهو إمعان في الإذلال. هو وصفة لحروب ألف عالم، ولو تخللتها هدنة، أو مرحلة هدوء، وما كان يحمله الغرب، أو الولايات المتحدة هو ديكتات، من أجل “عالم مزدهر”، باسم وسيط نزيه، وباسم الأرض مقابل السلام، وباسم ما بشّرت به في العراق، وباسم اتفاقات أبراهام. والواقع أصدق أنْباء من الكتب.