محمد عسيلة يكتب..موت المثقف
في وقت مبكر من عام 1983، تحدث الفيلسوف الفرنسي جان فرانسوا ليوتار Jean-François Lyotard عن “قبر المثقف” وبرر موته بعدم اليقين الناجم عن ما بعد الحداثة. ولقد اشتد الحديث عن موت المثقفين منذ نهاية الحرب الباردة بعد “نهاية الأيديولوجيات” لدانيال بيل أو حتى “نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، فلم تعد للمثقف أية وظيفة كحامل لمعارك الأفكار الحديثة.
لقد قادتني قولة جان فرانسوا ليوتار إلى العودة إلى النقاش القديم قدم مفهوم المثقف نفسه: من هو المثقف ومما تتكون مهمته السياسية والأخلاقية والاجتماعية والثقافية؟ ما سبب ذلك التدهور القیمي الذي تعاني منه الكثير من المجتمعات؟ أهو المثقف الثرثار، الذي يتبجح بالقيم على المستوى النظري وهو بعيد شخصيا عنها؟ أم نتيجة الخلل والضمور والنحافة في التصور الفكري والأخلاقي والقيمي الذي أصاب ضمير وقلب وعقل ووجدان هذا المثقف، أم بسبب تحقيق مصالح آنية مادية أمام قوى وآليات الاستهلاك وأصبح “منتوجه” الفكري لا الأخلاقي ملتزما بالسوق وبالعرض والطلب؟
إنني أبتغي من طرح هذه المعضلات أو الأسئلة إعادة التفكير في الصلة البديهة بين المثقف ومنظومة القيم، وبين سلوكه ووعيه في تعميق التواصل الإنساني الرفيع الراقي والعاقل مع أفراد المجتمع، المثقف الذي يؤمن بالقضية، فينخرط في مسالك العلاقات لإعادة خلق نظام سلس وجميل وليقول خيرا أو ليصمت، بعيدا عن أي تحيز أو سطحیة أو تعميم أو انخراط في لعبة مع الشياطين كأحد الثرثارين ممن ينطق الكلمة، ویهين كینونة الإنسان تحت تبريرات واهية عدة. وقد أضيف هنا إلى مفهوم “المثقف الثرثار” صفة المنافق، ليستقيم المعنى في هذا التوصيف لهذه الفئة من المثقفين الذين دخلوا أسواق العروض والطلب وأسواق المزاد العلني.
لقد كانت الثقافة دوما مُعبِّرا أساسيا عن كينونة الإنسان، فهي في أساسها وجوهرها قيمة أساسية من قيم التعبير عن كرامة الإنسان وانتمائه لبقية البشر عبر مكونات الاتصال والإبداع ومنظومة القيم الكونية التي لا تحتاج إلى الكولسة في غلس النظام، ضد هذه الجهة أو تلك. فهذا المثقف الثرثار المنافق الذي أحاول اليوم تفكيك شخصيته لا تعوزه البلاغة والرشاقة اللفظية؛ لكنه يفتقر إلى الالتزام بالواجب الأخلاقي في اختيار الصالح من الطالح وإيجاد البعد الصحي من شياطين الإنس الذي يريدون عبره تمرير ونفث سمومهم في أجساد الشرفاء والشريفات من المجتمع. وقد يتغاضى الطرف عن هذه المهزلة، لأنه ثرثار ولا يهمه إلا “البقاء” على المنصات، كيفما كانت هذه المنصات.
وأتذكر هنا قول الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقات” حيث أشار داخل مفهوم دور الفقيه العالم الخطير في المجتمع، وقد أضيف إليه تجاوزا “دور المثقف” بالمعني الحالي: “ليس كل علم يبث وينشر، وإن كان حقا، وقد أخبر مالك عن نفسه أن عنده أحاديث وعلما ما تكلم فيها، ولا حدث بها، وكان يكره الكلام فيما ليس تحته عمل نعم، “ما ليس تحته عمل” كان هو المؤشر في اللفظ وتفاعل الفقهاء مع مجتمعاتهم، لأنهم كانوا يريدون تحقيق التربية والسمو الأخلاقي من خلال الممارسة والقدوة والتفاعل وتحقيق الذات الصالحة المصلحة، ليس الذات الثرثارة المنافقة.
إن المثقف يخلق وينمي الوعي في المجتمع وفق رؤية تتسم بالجدة والنجاعة والحداثة والفاعلية، تتجاوز الواقع الثابت والجامد نحو الأفضل، يعالج بانخراطه الفكري والمعاملاتي السلبيات التي تحيط وتنخر وتؤخر المجتمع، يترك أثره الإيجابي الفعال بكاريزما فكره وأخلاقه ويفعل دوره بالتعديل والتغيير لأنه يخلق ويعبر عن حالة جديدة للمجتمع من خلال بث وغرز الوعي وتنميته وتطوره في المجتمع فيؤدي إلى التغيير نحو التقدم والتطور من خلال تأثيراته في المجتمع.
فالنخب المثقفة تحتاج إلى ثقافة التواضع، والمراجعة السلوكية واستصحاب البساطة، فليس للمثقف من فضيلة سوى بيان الخير ومسالكه الانخراط في تحقيقه واجتناب الشر والأشرار.
إن الآراء والأفكار متعددة بتعدد المثقفين والمفكرين لكن الحق ثابت وهو بهذا المعيار والاختيار والاختبار في كل فعل وسلوك وممارسة، فالكلمة مسؤولية (وِقفوهم إنهم مسؤولون). فالسلوك الناشز للمثقف ينفذ كالكلمة للعقول والقلوب والوجدان ولهذا على فعل المثقف وسلوكه أن يكون مقترنا بالمصداقية والقيادة والحضور والانخراط الشفاف والحب والمحبة والتجرد. عدا هذا سيكون هذا المثقف الثرثار عاجزا عن استنهاض الإرادة والهمم في زمن یكاد یطمس في الإنسان معالم الإنسان. من طرف شياطين الإنس.