عندما يتحول الفيسبوك إلى محاورة للأكياس بمدينة فاس .. القاسمي يُجيب شيخه بأدبٍ ورُقي

بقلم محمد القاسمي

كتب هذا الرجل العظيم (عبد الإله صابر ) شيخي وأستاذي ، تعليقاً قصيراً ودقيقاً وعميقاً على احدى تدويناتي وأنا أستفتح كلماتي بالقول “على بركة العقل الرَّاشد” ، ونضرا للمحبة الصادقة المتبادلة بيننا ، قرأت عِباراته وعَبراته، كلماته وحروفه، كصفعات وخناجر تخترق دواخلي وكُلِّياتي ، تمزِّق ما تشوَّه من شاكِلتي القديمة ، ذالكم الطفل الذي تربى في أحضان الزَّوايا وصحبة رجالاتها الكِبار ، وخَبِر مصطلحاتهم ومداركهم ومدارجهم ومنازلهم حسب ما توفر لنا من حظٍ أو مكابدة ، ذلكم الطفل الذي كانت غايته في فترات من الزمان الغابر سلك دروب هؤلاء القوم أو على الأقل التَّشبُّه بهم، لكن ترتيبات القدر جعلتني في مكان آخر وأنضر للأشياء من زاوية أخرى ، لكني لا أدَّعي أنها الحقيقة ، قد يكون الرَّمدُ أعمى بصيرتي أو خانتني مركبتي وتهت بلا رُبَّان ، فكان عليَّ لزاماً أن أرُدَّ بأناقة ولطافة وأدب .

الرجل المقصود لا يمكن أن أخاطبه بكلمات جافة وحروف جوفاء، روحانيته تفرض الأدب والمزيد من الأدب ، بل تستوجب ذلك لأسباب يعرفها من ساعفهم الوقت للجلوس ولو لدقيقة واحدة مع هذا الإنسان ، ردِّي ليس دفاعاً عن الصورة التي يعرفها الرَّجل عليَّ لسنوات طِوال ، بل لأبرر لذاتي أن الجوهر واحد ولازال كما كان، والشَّكل مهما تعدَّد وتنَوَّع فما ذلك إلا من ضرورة الزمكان “كلُّ يوم هو في شأن”، ربَّما أنا لست أنا الذي كان علي أن أكون هو ، لكنني هكذا أنا اليوم ، ومن حِكَمِ العارفين الواصلين السَّالكين المُسَلِّكين من أمثالكم سيدي أن يقبلوا الآخر كما هو ، إذا سبقتنا العناية فلن تَضرَّنا الجناية وهذا هو المضمون في أهل النضرة الصافية ، والذي فرض علينا نور العقل لرادنا إلى معاذ …

تعليق الرجل (عبد الإله صابر ) :

أسلوب رائع و راقي .. تبارك الله
ملاحظة بسيطة من قارء مبتدء وهي تغييب اسم الله عن مقالكم ، هذا الاسم الذي باركك به من سبقوني 16 مرة . علما أن المتمعن في ديباجة ما كتب يجدها نابعة من موحد الحد!

الردَّ على التعليق ، بقلمي كالتالي :

عبد الاله صابر الحمد لله الذي لا تحيط بهِ الفهوم ولا نصل اليه بالصحافة ولا العلوم أو الفهوم .

ملاحظتك مقبولة سيدي وحبيبي عبد الإله وهي من قارئ ماهر ، وأرِيب حاذق، وحصيف تشهد له أسوار فاس وأزقتها قبل ناسها وسكانها ، أنا في كتاباتي الأدبية الصحفية السَّردية أحياناً والإنشائية في أحايين كثيرة والتي تبقى في الأخير لصغير ليس من اللباقة والأدب أن يعلق على أسياده ؛ لكنه ليس بتعليق ولا رد، بل مُكاتبة طيف روحٍ إلى روح ، تسبقها عواطف ومشاعر الحب والتقدير والاحترام التي لا تهتز بالزلازل ولا العواصف أو البراكين ، بادء ذي بدء سيدي وأستاذي وحبيبُ قلبي القديم الجديد ، صابر الصُّابرِ على سوء أدبِي معه منذ عشران السِّنين ، أنا المعترف لك الراجيُّ في عفوك وصفحك على الدَّوام، سيدي المنافح على أيُّ ما من شأنه أن يكون محطَّ شكٍّ أو سوء أدب مع من لا وجودَ لسواه ذاك المطلق والذي مقالي ليس بخارجٍ عنه ، فالحرف والجوهر والقصد والمقصود واحدٌ لا يتجزأ .

سيدي عبد الإله العزيز : مقصودك بالتذكر والتفكر موجود في وحدة مع مقالي ومشاعري وتعليقك بعد ذلك وكِتابي ، قبل أن يشار إليه بإسم ، والمستمرُّ ولو بانعدام اللغات والكلمات بما في ذلك تلكم الأشكال التي تُشكِّلُ في ذهنية المخلوق إسما لله ، أنا ذاك الناكر الجاحدُ للصور والألوان والعبارات، الربانيُّ وجودًا وعدماً، ذاك اللاشيء الذي يشكل الشيءَ فيكتسي الشيء به مشيأته ووجوده وأزليته ببقائي وفنائي ، والذي وجوده لولاي ولولاك عين المُحَال ، المُدرك لما كان يتغناه جهلاً ويبدعهُ مقاماً، عذراً سيدي أقصدُ مقامَ المُغني وليس الغني المستغني الذي خصص له ابن عربي فصوص حكمه ، حيث كنت أصيح “… الكل إن حققته عدمٌ على التفصيل والإجمالِ…” إلا أن قادتني ترتيبات الأقدار وما اقترفته أيادي الأغيار لأتيقن أنَّ إيماني لا يتحقَّقُ إلا بإنكراري لكلِّ ما سوِاه ، هو هو وأنا وأنت هو ولا شيء إلا هو ، ذكرته أو لم تذكره أو حذفت الأسماء الدالة عليه ، فلا يتأثر بما تتأثر به نفوس مثلي ، ولا يحتاج وجوده إلى تأكيد كما لا ينعدم بنفي ، اعتبرها حماقات وشطحات وجنونُ من فرض عليه الصمت الخانق والتأمل البارق ثلاث سنوات كاملة في مدرسة غار حراء التي غيَّر الله مكانها إلى المغرب فصارت بذلك زنزانة انفرادية إجبارية حسب الإصطلاح المؤسساتي السِّجني الخادع لغيري وأنا فتح الله له أبواب الغيب فرأى رحمته تهبُّ في ضيق المكان لتعلوا المكانة حمداً لله ، ففتح الله وغير الغارَ مكانه من حراءَ إلى مكناس الزيتون وطور سيناء مولاي إدريس الأزهر الأبهر بلا عناء ولا شقاء ، فجالت الواردات والخواطر والأفكار إلى أن نكرت ذاتي النكرة وكلَّ الموجودات ، صرت كاتبا للجميع ولا أكتب لأحد ، أمَا وأنت المعلق الناقد ، المنتصر لإسم الله في هذه التدوينة التي لا ينقصها إلا صفعة أُخرى من الجانب الأيسر .

أنت سيدي ومولاي ذاك الذي رآنا وهو الذي لا تُطمس بصيرته ولا تُمَسُّ عيناه الزرقاوتين الجميلتين برمد ولا سواد ، ونحن قد غيبنا حسب ما رآه دون غيره وباح بذلك لسبب أعلمُه ، وأنَّنا والعياذ بالله قد غيَّبنا حروف اسم الجلالة في مقالنا هذا الذي لا يَدُلُّ علينا ولا عليه ، ولا نأمل في موصول ولا مرغوب نستعمل فيه اسم الله ، يرى أننا متجردين من بركته ومعونته وتوفيقه وسداده، كمالاحظ هذا الفطِن اللبق والحكيم الخبير في أمور الدنيا والدِّين ، ومن ثم حسبَ واحتسب أن أكف الضراعة قد رفعت من ستة عشر نفرٍ من الإنس الفيسبوكيُّ مُعلقين ومستغيتين بالرحيم الرحمان ، فمالهم من ذلك إلا الرسم وماجرت عليه العادة ولو كنتُ مُقبلا على الحرق أو الغرق ، سيدي ومولاي إبن أهلا الله المصاحبُ لرجالات الاشارة والعبارة ، أقولُ وأنت سادتنا العارفين : رموز الذات الإلهية المعبَّرُ عنها بحروف طبيعية لا تشكل كُنههُ ولا ماهيته ولا جوهره ولا معناه ، فدعنا من عصاك التي شقت علينا وأشقتنا هذا الصباح ، وهذا الحبر الأحمر الذي أهْرَقته علينا بأدبٍ ولطافة في الأسلوب وقمة في التقدير والاحترام ، والذي ما كان الهدف منه ذكر الاسم بل التذكير في معناه وهذا هو المأمول في صوفي مثلك يحبُّ الخير لأحبابه ولو تركهم التصوف أو تُرِّكوا قبيل الوقت فتاهوا وظلوا وأظلوا .

سيدي عبد الإله العزيز : متى غاب أو انعدم حتى تذكرني ولو بلطافتك التي جعلتني أحتسي قهوتين متتاليتين لردٍّ أردُّ فيه على نفسي أولا وليس من ربَّاني وهذبني وأرشدني لسنوات طوال ، ذاك الذي أسميته ولا زلت “أبي الروحي” والسلام على مقامكم العالي بالله ولولا مقامكم عندي لما خصصت لكم مقالا أخر أكثر من المقال موضوع الجدل والنقاش إلا أنني حاولت أن أخاطبك بلغة الصوفي الإنسان وليس الصحافي أو الروائي أو الشاعر الماهر في اللغة والبيان ، مقامكم يقتضي الأدب قبل البلاغة والبديع والاستعارات والتشدق بكلام صاحب الأنياب . بقلم إبنك الروحي : محمد القاسمي

وبعد لقاء الأمس الطويل بمنزلكم المبارك ونحن نُعاين مدينة سلوة الأنفاس ومحادثة الأكياس من موقعٍ يطُلُّ على الحاضرة الإدريسية ونحن نشمُّ رائحة العود ، رفقة الشقيقة الصغرى السيدة مريم التي أحالك إسمها على مريم الأخرى الجوهرة التي غابت عن مجلسنا وحضرت روحانيتها ، فصرنا أمام روحانية مريمتان فزادتا المجلس جمالا وبهاءا وهنَّ ينتصرن لك ضدَّ إبنك العاق وفيما يذهب إليه ويريد العودة منه ولا يعلم وجهة له إلا طريقاً طويلاً بلا محطة معلومة ولعلها في بيتك … ، أقول مستعيناً بالله الرحمان الرَّحيم : الصداقة هي السور الذي يحمي قلوبنا من ظلم الدنيا وآلامها، وللصداقة قوة تجعلنا نشعر بالأمان والاطمئنان دون حتى أن يبذل الأصدقاء جهدا، ففي غياب الصديق تمر الحياة بلا ھدف وفي غياب الصديق الأب تحديداً الذي يراك من موقع الأب تغيب عنَّا العناية والحماية المرجوة للمسير نحو الإصلاح المنشود ، ويغيب عنھا -أي الحياة – المعنى، وتنعدم فيھا المعايير، وتعظم الھوة في النفس جراء الفردانية، حتى يلوح عمقھا وتكبر دائرة الفرق بين ما يرغب فيه المرئ، وبين الواقع الذي يحيا، لتمتلئ تلك الھوة بالألم وذاك ما أشعر به في غياب النَّاصحين الصادقين في حياتي .

مع الزمن، يتحول الألم إلى حزن، ويتحول الحزن إلى صمت، ويتحول الصمت إلى وحدة عظيمة وشاسعة كالمحيطات المظلمة، حيث النور على أشده، لكن يزداد الظل عمقا، بعمق القعر الذي لا نهاية له ، حتى يخيل إلي أن الرجال العظماء لابد أن يشعروا على هذه الأرض بحزن عظيم كذاك الحزن الذي أراه يسكن جوارح أحباب قلبي الذين يحملون همَّ حياتهم وهمَّ أصدقائهم وهُم تائهون في البحث عن المعني (معنى الحياة) ، فالجريمة والعقاب ترفع الهموم والآلام، لأن عواطف الحزن والشقاء لا تكون إلا من سُمو، وهي لابد أن تكون لأنها وحدها الحارسة فينا لإنسانيتنا، المفرطة التي تظهر أمام عظمة المواقف ونحن ننهار أمام جلال وجمال القوي القهار ، كأوراق الورد إذا تمَ العقل نقص الكلام، حين تنحبس أنفاسنا في الأعماق وتسيل مياه الدُّموع وبدون سبب معلوم ولا معقول إلاَّ أنها تريد أن تسيل أمام لغزٍ عملاق لا نعلم ماهو ، فليسَ الجمال هو الجمال بذاتهِ الحسن، فالجمال يوجد حين يوجد الرائي، وقد لاح لي أن لا أحد ينتبه لنظراتك الشاردة، وأفكارك المثقوبة، التي تستطيع خداع نصف العالم بأنك بخير وأنت ترجو من الله أن تكون كذلك فعلا، وأنت تريد العودة لذاتك المفقودة في غياهب الشجون والسُّجون، في كهوف الذات العلية عن الفهوم والعقول إلا واصلٍ مُوَصِّل يقيك طريق المهالك …

ولي العلم أنها من الحماقة بمكان أن يسيطر اليأس على الإنسان وهو في طريقه للحقيقة ، حقيقه ماهيته ، حقيقة وجوده ، حقيقة هذا المطلق الذي نحن في سرمديته دائمين موجودين ومنعدمين ، وفي اعتقادي أن اليأس نفسه خطيئة بل رغبة أخرى للبداية من جديد .. ولست واثقاً أنني أفكر باليأس أو أؤمن به، ففي الحياة أفراد يعيشون للتفكير في اليأس، دعهم يفكروا فيه هم المهمومين بماهية ماهيتهم ، أمّا أنت فلقد خلقت لتكون صيادا عظيما، لأن كل مبدأ نبيل إذا لم يحكمه دين سمح مسيطر، يجعل سلوك صاحبه في الحياة غير نبيل، فكلنا يقابل ولو لمرة واحدة في العمر رجالا يلفظون بكلمات تجعلنا نفكر للأبد، فهناك رجالات كلماتهم كالوحي، يستطيعون تركيز كل أسرار الحياة في جملة واحدة، ويتفوهون بأقوال تشكل الشخصية وتوضح الوجود، وأنتم من ھؤلاء الرجال، أقصدك أنت سيدي عبد الإله صابر ، الصَّابر على شغبي وتمردي ووشاوشي وكل ما يليق بصغير مثلي …

ألا ما أشبه الإنسان في الحياة بالسفينة في أمواج هذا البحر، إن ارتفعت السفينة أو أنخفضت أو مادت، فليس ذلك منها وحدها، بل ما حولها، ولن تستطيع هذه السفينة أن تملك من قانون ما حولها شيئا، ولكن قانونها هو الثبات، والتوازن، والاهتداء إلى قصدها ونجاتها في قانونها، فلا يعتبن الإنسان على الدنيا وأحكامها، ولكن فليجتهد أن يحكم نفسه. فأصعب فصول الحكمة في الحياة هو أن تعرف كيف تصبح إنسانا، فالعاقل ينضج من خلال الخبرة إذا واجه الحياة بشجاعة ومصداقية، فهكذا تكتسب الصفات التي تميز الإنسان، وھذا الذي لقنتني مجالسك .

وخلصت من مجالستي إياك أن الشجاعة التي نريدها ونكافئ عليها ليست شجاعة الموت بطريقة مشرفة، بل شجاعة الحياة برجولة، فالموت نقيا أفضل من الحياة مدنسا، فأحد أكبر تحديات الوجود هو قبول الناس كما هم بالفعل، لأن قبول الآخرين كما هو صعب أحيانا أكثر مما نعتقد، لهذا السبب نحاول في كثير من الأحيان دون وعي ، تغييرها بدلا من تغييرنا. ربما ليست خلافاتنا هي التي تفرقنا. إنه عدم قدرتنا على التعرف على هذه الاختلافات وقبولها والاحتفاء بها. فنحن جميعًا سريعون في الإشارة إلى جميع الاختلافات ولكننا لسنا مستعدين لقبول ما يربطنا كبشر، ونرى من العيب أن يخرج أحدنا عن المألوف وكأن الحقيقة من اختصاص الجماعة والجمهور ، فالإنسان في مسيره نحو الهدف المرسوم من نماذج الآخرين مسير نحو المجهول ، أما وأنت اخترت طريقك وتتحمل مسؤوليتك في خوض غمار ذلكم البحر الذي وقف الأنبياء بساحله ، إنه لأمر مرهق ، وتبقى الحقيقة الواحدة في الوجود هو المصطلح في حد ذاته والذي لا يخرج عن إطار خدعة الأسلوب ، عندما تنتج البشرية مفهوما وإصلاحا يجعل الخيال مسجون البحث عن شيء مجرد لانعلم له شكلاً قد يكون الدواء هو ذاك الوهم الكبير حينما يكتسي بذلة أسماء وصفات من عالم الغيب والسَّماء …

ملاحظة : محاورة ومكاتبة للعقول الراقية من كلِّ بقاع الأرض ، وكلُّ من يعرف الطرفان من أهل فاس الحبيبة رغم حرارتها إلا أن أمثال سيدي عبد الإله صابر ومن في بيته يجعلون مناخها الحار برداً وسلاما …

قد يعجبك ايضا