قصف قطر… أول الغيث في مشروع استباحة العرب

بقلم: د. فارس يغمور
عميد المعهد العالي لحقوق الإنسان والعلوم الدبلوماسية
يعيش العالم العربي اليوم مرحلة فارقة من تاريخه، حيث يتكشف المشهد الإقليمي عن غطرسة إسرائيلية متزايدة مدعومة بدعم أمريكي مطلق، تُترجم عملياً في استباحة سيادة الدول العربية دون استثناء. وما جرى من قصف استهدف قطر ليس مجرد حدث عابر، بل هو بداية خطيرة لمشروع أكبر يرمي إلى تكريس الهيمنة على المنطقة، وإرسال رسالة صريحة: “كل العواصم العربية في مرمى الاستهداف”.
الغطرسة الإسرائيلية والهيمنة الأمريكية
منذ عقود، لعبت إسرائيل دور الذراع الضاربة لواشنطن في المنطقة. فهي الأداة التي تنفذ عبرها المشاريع الأمريكية، والعصا التي تستخدمها لإخضاع الأنظمة العربية متى اقتضت مصالحها ذلك. والادعاء بوجود “تحالف” عربي ـ أمريكي لحماية الاستقرار لم يكن يوماً إلا وهماً سياسياً، سرعان ما يسقط أمام أول اختبار عملي.
قصف قطر… رسالة أبعد من الحدود
إنّ استهداف قطر اليوم يتجاوز حدودها الجغرافية، فهو حلقة جديدة في مسلسل استباحة العرب، كما حدث في العراق عام 2003 حين دُمّر بحجة أسلحة الدمار الشامل، وكما حدث في ليبيا عام 2011 حين تحولت إلى دولة مفككة، وكما يحدث باستمرار في غزة ولبنان حيث يُكشف غياب الردع العربي بشكل مؤلم. الرسالة واضحة: إذا صمت العرب اليوم، فستتكرر المأساة غداً في عواصم أخرى.
القواعد الأمريكية… وهم الحماية
قد يعتقد البعض أنّ وجود القواعد العسكرية الأمريكية في قطر ـ وأبرزها قاعدة “العديد” التي تُعد الأكبر في المنطقة ـ يشكل ضمانة أمنية، لكن الواقع أثبت العكس. فالضربة التي تعرضت لها قطر جرت في ظل وجود تلك القواعد، دون أن تمنعها أو توفر لها الحماية. الأمر نفسه ينطبق على باقي الدول التي تستضيف قواعد أمريكية، مثل الكويت، البحرين، الإمارات، والسعودية.
إنّ هذه القواعد لم تُنشأ لحماية أصحاب الأرض، بل لحماية المصالح الأمريكية والإسرائيلية في المقام الأول. إنها أدوات مراقبة وهيمنة، أكثر منها مظلة أمنية. وما يجري اليوم خير دليل على أنّ واشنطن لا تبالي بأمن حلفائها بقدر ما توظفهم لخدمة استراتيجياتها الكبرى.
البعد القانوني: انتهاك صارخ للسيادة
من الناحية القانونية، يُعدّ الاعتداء على قطر خرقاً صريحاً للقانون الدولي العام، وخصوصاً:
المادة (2) من ميثاق الأمم المتحدة التي تحظر التهديد أو استخدام القوة ضد سلامة الأراضي أو الاستقلال السياسي لأي دولة.
القانون الدولي الإنساني الذي يجرّم الاعتداءات على المدنيين والأعيان المدنية.
قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة التي تؤكد على مبدأ احترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية.
لكن المعضلة تكمن في الازدواجية الصارخة في تطبيق القانون الدولي؛ فحين يتعلق الأمر بدول صغيرة أو عربية، يُغضّ الطرف عن هذه الانتهاكات، بينما تُستخدم ذات النصوص القانونية كذريعة لمعاقبة دول أخرى وفقاً للمصالح السياسية للقوى الكبرى. وهذا يطرح سؤالاً محورياً: أين الشرعية الدولية من كل ما يجري؟
الغفلة العربية واستنزاف الثروات
المؤسف أنّ بعض الأنظمة العربية لا تزال تراهن على واشنطن، وتضخ مليارات الدولارات في صفقات سلاح ضخمة، لا لتعزيز قدراتها الدفاعية، بل لضمان رضا البيت الأبيض. وهذه الأموال التي لو وُظفت في مشروع عسكري عربي مشترك، لكانت كفيلة ببناء قوة ردع تُربك الأعداء وتعيد التوازن الاستراتيجي في المنطقة.
دروس للتاريخ ونداء للعرب
لقد علّمنا التاريخ القريب أنّ كل دولة عربية ارتمت في أحضان أمريكا، وجدت نفسها في النهاية ضحية لسياساتها:
العراق دُمّر رغم “علاقاته” السابقة مع واشنطن.
ليبيا أُسقطت رغم محاولاتها التقرب من الغرب.
واليوم قطر تُقصف رغم وجود أكبر قاعدة أمريكية على أراضيها.
فهل من مزيد من الأدلة حتى يقتنع العرب أنّ الحماية لا تُشترى بالدولار، ولا تأتي من وراء البحار؟
كلمة أخيرة
إنّ قصف قطر ليس مجرد اعتداء محدود، بل إنذار للأمة بأكملها. وإذا لم يكن هذا الحدث صرخة لإيقاظ العرب من سباتهم، فسيأتي الدور على البقية تباعاً.
لقد آن الأوان لوضع حد لوهم الحماية الأمريكية، والانتقال نحو بناء مشروع عربي مستقل يقوم على وحدة الصف، وتحقيق الاكتفاء الدفاعي، وتحويل الثروات العربية من أداة استنزاف إلى مصدر قوة.
فالأمن لا يُستورد، والسيادة لا تُستعار، والعزة لا تُمنح. من لا يدافع عن نفسه لن يدافع عنه أحد. وما لم ندرك هذه الحقيقة سريعاً، فإنّ القادم سيكون أعظم خطراً وأشد مرارة.