كلمة مولاي الحسن الداكي الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض رئيس النيابة العامة في فعاليات افتتاح الندوة الدولية المنعقدة تحت شعار: “التحول الرقمي لمنظومة العدالة: رافعة لعدالة ناجعة وشمولية”
MA24TV_ماروك 24 تيفي
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، وآله وصحبه أجمعين
تلقيت باعتزاز كبير وشرف بالغ الدعوة الكريمة للسيد وزير العدل للمشاركة في فعاليات المؤتمر الدولي حول التحول الرقمي لمنظومة العدالة الذي تنظمه وزارة العدل بشراكة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت شعار “التحول الرقمي لمنظومة العدالة: رافعة لعدالة ناجعة وشمولية” والذي تحتضنه مدينة طنجة التي تعتبر جامعة بين ذاكرة التقاء حَضَارَاتٍ مُتَعَدِّدَةٍ وَصِلَةَ وَصْلٍ بين ضفتي البحر الأبيض المتوسط، وتؤرخ لمحطات تاريخية مضيئة من تاريخ المغرب.
وبهذه المناسبة أود أن أتقدم بأسمى عبارات الشكر والتقدير للسيد وزير العدل على هذه المبادرة التي يعكسها حسن اختيار شعار هذا المؤتمر الذي له راهنية كبرى بالنظر لأهمية الموضوع الذي سينكب على مناقشته والذي يأتي انعقاده في سياقٍ تطبعه مجموعة من التحولات والأوراش الكبيرة التي تعرفها بلادنا في مختلف المجالات، لاسيما في مجال الرقمنة والتحديث، ومن دون شك فإن هذا المؤتمر يشكل مناسبة لتبادل الخبرات والأفكار وتقاسم التجارب والممارسات الفضلى في مجال رقمنة العدالة كما يشكل فرصة لاستشراف آفاق التعاون في هذا المجال خدمة للعدالة ببلداننا.
إن انعقاد هذا المؤتمر حول موضوع التحول الرقمي لمنظومة العدالة يندرج في سياق الأوراش الإصلاحية الكبرى التي تعرفها المملكة تحت القيادة الرشيدة لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده والتي تهدف إلى استثمار التكنولوجيا الرقمية وجعلها أحد المداخل الأساسية لتحسين علاقة الإدارة بالمرتفقين ومحفزاً لتسريع وثيرة التنمية وتعزيز النجاعة وتحسين جودة الخدمات العمومية المقدمة للمرتفقين.
كما يعكس تنظيمه أيضاً مستوى الاهتمام الكبير الذي توليه وزارة العدل لموضوع التحول الرقمي في مجال العدالة والذي انخرطت فيه مكونات السلطة القضائية بكل جدية ومسؤولية حيث قطعنا فيه عدة أشواط وبدأنا نتلمس ثمارها من خلال رقمنة العديد من الإجراءات والمساطر القضائية على مستوى المحاكم، وهو ورش مازالت تنتظرنا فيه مراحل أخرى سنعمل سوياً في إطار من التنسيق المؤسساتي لتنزيلها في المنظور القريب.
حضرات السيدات والسادة
لا يخفى عليكم أن الثورة الرقمية والطفرات التكنولوجية قد ألقت بظلالها على مختلف مناحي الحياة دون استثناء بما في ذلك منظومة العدالة، حيث أصبحت تلك التطورات يوما بعد يوم محط اهتمام مختلف الفاعلين والمتدخلين في حقل العدالة باعتبارها مدخلا أساسيا للارتقاء بأداء المرفق القضائي وتطوير الإدارة القضائية وتيسير الولوج المستنير للعدالة والرفع من جودة أدائها ضمانا لتحقيق النجاعة القضائية.
وفي هذا السياق تجدر الإشارة إلى أن الحوار الوطني لإصلاح منظومة العدالة شكَّل لحظة هامة لتعميق النقاش حول موضوع تحديث الإدارة القضائية وتعزيز حكامتها ، وهو بذلك يعتبر منطلقا مشتركا لنا كفاعلين في إنتاج العدالة، لا سيما في ظل ما أسفرت عنه مخرجات هذا الحوار من توصيات تمحورت حول وضع أسس محكمة رقمية منفتحة على محيطها وعلى المتقاضين وتشجيع استخدام الوسائل التكنولوجية الحديثة في إدارة المحاكم وتصريف القضايا وإحداث الملف القضائي الإلكتروني فضلا عن رقمنة المساطر والإجراءات وتوظيف الوسائل الرقمية في عملية التواصل مع المتقاضين والمهنيين ومساعدي العدالة.
ومن هذا المنطلق، فقد أضحى الاقتناع راسخا بأن التحول الرقمي لمنظومة العدالة أصبح اختياراً لا محيد عنه وضرورة تفرض نفسها وتتطلب انخراط كل الفاعلين في مجالها وهو الأمر الذي ما فتئ يؤكد عليه جلالة الملك محمد السادس نصره الله في العديد من خطبه الملكية وتوجيهاته النيرة، نذكر من بينها الرسالة السامية الموجهة إلى المشاركين في الدورة الثانية للمؤتمر الدولي للعدالة المنعقد بمراكش بتاريخ 21-10-2019 حيث قال جلالته “وفي نفس السياق، ندعو لاستثمار ما توفره الوسائل التكنولوجية الحديثة من إمكانيات لنشر المعلومة القانونية والقضائية، وتبني خيار تعزيز وتعميم لامادية الإجراءات والمساطر القانونية والقضائية، والتقاضي عن بعد، باعتبارها وسائل فعالة تسهم في تحقيق السرعة والنجاعة، وذلك انسجاما مع متطلبات منازعات المال والأعمال، مع الحرص على تقعيدها قانونيا، وانخراط كل مكونات منظومة العدالة في ورش التحول الرقمي.” انتهى النطق الملكي السامي.
حضرات السيدات والسادة
إن التحول الرقمي الذي تشهده منظومة العدالة اليوم يُعد مؤشرا قويا على الإرادة الراسخة الرامية إلى الانخراط الفعلي والمتواصل في هذا الورش الإصلاحي الكبير الذي من شأنه الارتقاء بفعالية تدبير القضايا وتطوير جودة تدبير القضايا والبت فيها داخل آجال جد معقولة وترسيخ الثقافة الرقمية في مجال العدالة والرفع من منسوب الثقة في منظومتها لدى مختلف الفاعلين والمتدخلين في إنتاجها، فرقمنة المساطر والإجراءات القضائية تعتبر من المداخل الأساسية لتعزيز مبادئ الشفافية والنزاهة المطلوبتين، بالنظر لما يوفره استثمار الوسائل الرقمية والتكنولوجية في العمل اليومي للإدارة وفي علاقاتها مع مرتفقيها من جودة وثقة من خلال الحصول على الخدمات المطلوبة بشكل ميسر وشفاف ودون إثقال كاهل العاملين بالمؤسسة القضائية بكثرة الاستقبالات ، كما أن التوظيف الرشيد لما تتيحه التكنولوجيا من مزايا من شأنه تعزيز القدرة التنافسية للإدارة القضائية بما يؤهلها للقيام بأدوارها الطلائعية في تحفيز وحماية الاستثمار من جهة وتكريس حكامة المرفق القضائي من جهة أخرى.
كما تعتبر رقمنة العدالة أحد المداخل الرئيسية لمواصلة تنزيل النموذج التنموي الجديد الذي تتطلع إليه بلادنا والذي يرتكز على مجموعة من المرتكزات من بينها الارتقاء بتجويد العدالة ونجاعتها ، ولتحقيق هذه الغاية فإننا موقنون أن جهود جميع الفاعلين في هذا المجال يقتضي تضافرها من أجل رفع التحديات التي تعترض تسريع وثيرة الرقمنة، في مقدمتها التحدي التشريعي الذي يتطلب جهودا خاصة في سبيل تذليل الصعاب من أجل إيجاد الإطار القانوني لاعتماد مخرجات الاستعمال المتزايد للوسائل التكنولوجية في أفق اعتمادها كليا في تدبير المساطر والإجراءات. هذا بالإضافة إلى التحدي الذي يفرضه رصد المساطر المتسمة بالتعقيد وتحديد السبل الكفيلة بتبسيطها وجعلها قابلة للرقمنة لفائدة المرتفقين.
ولا غرو في أن إقامة نظام متين للرقمنة هو تحد قادرون على رفعه بعدما كانت لنا تجربة متميزة في ظل جائحة كوفيد بسبب الحجر الصحي الذي عرفته بلادنا على غرار سائر بلدان العالم، والتي شكلت فترة اختبار لقياس مدى قدرة وجاهزية العدالة المغربية لتبني خيار الرقمنة وجعلها واقعا ملموسا من خلال تجربة المحاكمة عن بعد وكذا تدبير العديد من الإجراءات رقميا حيث كان للتعاون المؤسساتي الدور الأساس في رفع كل التحديات التي كانت مطروحة كمعيقات وكسب رهان استمرار تصريف العمل القضائي بالمحاكم.
حضرات السيدات والسادة
يعتبر موضوع التحول الرقمي لمنظومة العدالة من بين الأوراش الكبرى التي تجسد التقائية المجهودات التي تقوم بها مختلف مكونات العدالة سواء على مستوى وزارة العدل أو المجلس الأعلى للسلطة القضائية أو رئاسة النيابة العامة ، وفي هذا الإطار واستحضاراً منها للأهمية التي تشكلها الرقمنة كآلية رافعة لتطوير أداء العدالة وتجويد خدماتها ببلادنا، عبأت رئاسة النيابة العامة كل امكانياتها البشرية واللوجيستيكية لإنجاح هذا الورش الكبير، عبر اتخاذ مجموعة من الخطوات الهادفة إلى إذكاء استعمال تقنيات المعلوميات في إطار تدبير عملها الداخلي من خلال إحداث عدة تطبيقيات معلوماتية لتسهيل تتبع العمل اليومي للنيابات العامة لدى المحاكم بالإضافة إلى اعتماد الرقمنة في تدبير الشكايات والمحاضر ، كما تم وضع العديد من المنصات الرقمية لتبادل المعطيات مع بعض الشركاء كما هو الشأن بالنسبة لقاعدة البيانات المعلوماتية المحدثة بين النيابات العامة ووحدة معالجة المعلومات المالية ، وقاعدة تبادل المعطيات مع بنك المغرب و النظام المعلوماتي لتبادل المذكرات بين رئاسة النيابة العامة و الوكالة القضائية للمملكة بالإضافة إلى مجموعة من التطبيقيات الأخرى.
ولقد توج انخراط رئاسة النيابة العامة في مسار الرقمنة بحصولها على جائزة التميز للدورة الرابعة عشر للجائزة الوطنية للإدارة الرقمية خلال سنة 2022 عن خدمة الشكاية الإلكترونية التي تسمح للمواطنين والأجانب سواء المقيمين منهم بالمغرب أو خارجه من وضع شكاياتهم وتتبع مآلها عن بعد من هواتفهم المحمولة ومن منازلهم دون عناء التنقل.
واستشرافاً منها للمستقبل، فإن رئاسة النيابة العامة عاقدة العزم على مواصلة الإسهام في برنامج التحول الرقمي إلى جانب وزارة العدل والمجلس الأعلى للسلطة القضائية والعمل على تنزيله في إطار التعاون والتنسيق المشترك فيما بين هذه المكونات. كما ستعمل على مواصلة تنفيذ مخططها الاستراتيجي والذي يرتكز على عدة مرتكزات من بينها تعزيز رقمنة الإجراءات القضائية وتبسيطها وهي استراتيجية تتقاطع في العديد من محاورها مع ما جاء في المخطط الاستراتيجي للمجلس الأعلى للسلطة القضائية 2021-2026.
وفي هذا السياق سَتُوَاصِلُ التعاون والتنسيق لتطوير مسار التحديث والرقمنة وفق مقاربة تشاركية مع مختلف الفاعلين في مجال العدالة في مقدمتهم المجلس الأعلى للسلطة القضائية ووزارة العدل في أفق بلوغ الأهداف الاستراتيجية التي نسعى من خلالها إلى تحقيق عدالة مواطنة تحظى بثقة كل مرتفقي العدالة، وتجسد ضمان الحقوق والحريات وفق ما نص عليه دستور المملكة.
في ختام هذه الكلمة، لا يسعني إلا أن أجدد الشكر الجزيل للسيد وزير العدل على دعوته لحضور هذا اللقاء العلمي المتميز، متمنياً لأشغال هذا المؤتمر كامل النجاح والتوفيق في تحقيق الأهداف المرجوة منه آملاً أن تساهم خلاصاته ومخرجاته في تسريع وثيرة تعميم تحديث منظومة العدالة المغربية في تفاعل مع التجارب الفضلى المقارنة في هذا المجال.
وأملنا وطيد في أن تساهم كل الأطراف المعنية في تجويد وتطوير هذا الورش الكبير الذي يصب في مواصلة تنزيل الأهداف المسطرة لإصلاح منظومة العدالة وفقا للتوجيهات الملكية السامية لصاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.