محمد القاسمي يكتب عن سجنه : أنا هنا … ! هواجس وأشجان للكل ولا لأحد ..!
أتنفَّس نسمةً منعشةًّ ومعطرةًّ، رقيقةً لطيفةً، مقطرةً من أنفاسِ الحرية ، تتملَّكني رعشةُ الأشواق ، تُداعبني رياحُ الخريف، القلبُ يزفر زفرات الحبِّ والحنين ، ويشهق وهجاً واشتياقاً ، وهو يُقابل شغافه ومحبيه من الأهل والأحباب ، والنفوس النَّبيلة الأبيّة والأُنوف الحَمية من الأصدقاء والصديقات (الأوفياء) ، إنها لحظاتٌ مشهودة وأوقاتٌ معهودة، بألوان الأمل والورود الزاهية تعلن ُ: ” العودة الميمونة” …
أنا هنا، عقبَ ثلاث سنواتٍ عجاف، قضيتها محبوساً في زنزانةٍ انفرادية بصبر وعزيمة وصمود وبسالة ، هاهو يوم الفرج قد طلَّ برأسه وأخرجني بيده الكريمتين من تلكم القضبان الحديدية التي تغوّلت علي، بظلامها الحالك وظروفها القاهرة احتلت قفصي الصدري غصبا…، هاهو باب السجن الأصم يبتعد منطويا على ذكريات ثقيلة كليلة ، تؤرخ بوشمٍ مداده الدم ؛ أحزانَ فترةٍ من العمر ، مؤلمة محرقة، وأخرى غيرتني، أنهضتني، علمتني … جليلة عظيمة تحلق في الأعالي ومرتفعات الصواري، زنزانتي، مغارتي، خلوتي الإجبارية.. ليالٍ استثنائية … غير قابلةٍ للنسيان، غير قابلةٍ للزوال، ستبقى دوما ماثلةً في الذَّهن …
خواطرٌ شتى تتجادبني الآن، وأنا قد وليتُ وجهي شطر بيت الوالدين بالحي الشعبي العريق بنسودة فاس، تاركا ورائي الجناح الانفرادي، البيت الذي أجبرت على العيش فيه مكرها وراء الجدران، كان علي لزاما أن أكابد الظلمة.. الصمت الحانق.. الوحدة المرعبة.. وأصارع الفراغ الموحش المميت، وأتقبل رصاصة الغدر المجرمة، لدغة الأفعى التي غالبا تختبئ تحت الورود، لأن كثيرا من القواويد يُخفون وراء المظاهر البرَّاقة المنافقة ملامح طافحة غلاًّ وسُمَّا، إنهم يستعملون كل دهائهم ليمكروا بغيرهم قدر المستطاع وباسم ملك الأرض يذبحون عدل ملك السماء، ولهذا : “المجرمون ينجون ويسقط الأبرياء” ، ألا نسقط وقد سقطت من قبلنا أوراق وأشجار وغابات؟! .
ودَّعتُ طابورَ الموت، مقبرة الشهداءِ المهجورة، عذابُ جهنمَ وبئسَ المصير، مصيرُ مثلي أقصد، آخرةٌ لم تتحدث عنها الكتب المقدسة، نعم، السجن الانفرادي قطعةٌ من الجحيم، رأيتُ وجه وطني بلارتوش، وعِشتُه دونَ مساحيق، ولن أغالي إن قلت : لو رآه يوسف لما قال :”السِّجن أحبُّ الي مما يدعونني إليه” ، ما رأيته هناك لم أسمع عنه في القصص ولم أقرأه في الروايات، ولأنني بشرٌ فقد عانيت معاناةٍ كثيرة في البداية ، لم أكن قادرا على الهروب من القلق المستمر، أضحَيتُ فاترَ العزيمة، شارد الذهن، اعتصرني الأسى والألم، استسلمتُ لتعكُّر المزاج، الإكتئاب الشديد، الحزن الذابح، شيوع التشاؤم، ذبول الروح وجذوة الحياة، كانت أيامي الأولى مأزقٌ وجودي وتجربة غير منتظرة في حياتي، أصبتُ بالتيه، شعرت باليتم … إلى ما لا نهاية من الشواعر ، كشخص حي لكن في الحقيقة ميت، حتى طقوس الأجداد والأسلاف التي تخفف وطأة الشرور والأقدار ويواجهون بها المحن واللِّحن صارت لاهي تستهويني ولا أنا أستهويها
انزوى قلبي واستكان إلى أبعد إحساس بالعتمة والفراغ، لايمكنني التعبير عن ذلك بالكلمات، ماعانيته لايعلم به أحد، ولاحتى ذاتي، ومع مرور الأيام سرعان ماتعافيت ، وشعرت أنني أصبحت إنسان آخر، لأنه وباختصار : “عندما يحصل شرخ ويقع جرح عميق فمن ذلك المكان يدخل النور “، تفعل العزلة بالنفس مالاتفعله قواميس الدنيا ومقدساتِها، العزلة تخنق فينا الشخص لتوقظ الشخصية، تفتح أقفال الذات، تدفعنا لمعرفة كلياتنا وكنوزنا الدفينة في أعماق الأعماق ، وما قيمة الإنسان إن لم يفتش على المعنى؟!، معنى حياته ، هاكذا تكشف لي السجن يوما ، اعتبرته اعادة اكتشاف، أو محاولة لإيجاد نقطة – محطة – انطلاق ، محفز لنزعة جديدة، إلى ما يتيح لي الحياة، بلغة أدق : ماقد يشفيني وينقذني، فراودتني لهفة مجنونة لمكتبتي العظيمة بالحاضرة الإدريسية، ذالكم النبع الثر والمعين الذي ارتويت منه إبَّان الإشراقات الأولى ..
غيرتُ ملامح زنزانتي من القتامة والبؤس إلى كل ما ينبض بالحياة والعلم، صرت أعيش في مكتبة كبيرة ومكان فسيح وليس زنزانة صغيرة، تغير كل شيء حولي ، ألهمتني أشباح الراحلين شجاعةً هادئة ومدركاتٍ جديدة ماكانت لتكون لولا التوقف في فصل من فصول حياتي ، ربما حدث ذلك لكي ألقي نظرة على ذاتي، وأعطيها فرصة أخرى بعدما تاهت في الطريق ..
أجَّلتُ نضري وإبداء رأيي وسط الرفوف بين أمهات الكتب والمجلدات ، أقتل الوقت بالقراءة والكتابة ، والرياضة والتأمل، رغم كل الأحزان التي تجثم المكان ، عشت سموَّ اللحظة متسلقا أدراج على شاهق ، وجّهت نظري إلى ماوراء الفضاء الذي أسكنه، رحلت إلى ما يسكنني أنا، عن خلاص فردي، أماني قديمة تسير في عروقي، تحرر .. استنارة .. انعتاق.. وصال.. يقظة،.. صحوة … !، كرَّستُ نفسي كُلِّياً للقراءة، أخلصت لكُتبي فكانت مصدر راحة ومبعث طاقة، صارت القراءة المستمرة ليل نهار تعزيتي في عزلتي، تريحني ، تُفتِّت كل شعور سلبي يراودني، شغفتُ بحياة العقل وأنا أسبح في العلوم بحثا عن ذاتي ، ليس ثمَّة سعادة أعظم للمرء إلا وهو بتحرّرُ من قيود الفكر المُوحلة …
فجأة، وجدتني في غمار تجربة فريدة والعزلة كانت هي المفتاح الذي طالما فتشت عليه، وبذلك لم يعد السِّجنُ مأساةً ومرحلة سيئة ، بل محطة هامة ومنبتَ خيراتٍ غزيرة، تُمثِّل زمنا قضيته في ضيافة “الذاكرة الأولى” … ، هيهات لقد أسرفت على نفسي بأشياء أخرى أعظم وأحل قيمة، لعلي كنت محتاجا إلى السكون في حياتي، وإلى الجلوس مع ذاتي، آويت إلى نفسي وقلت “أفٍّ لك أيتها الحياة! وعلى الباقي…!
ألف ليلة وثمانون ليلة ، قضيتها بلا انقطاع في معالجة أمور ذات أهمية بالغة بالنسبة إلي، تساميتُ عن الواقع المؤلم للعيش في قدسيّة الصمت، زهاء ثلاث أعوام ، عرفتي، كلمتني، جالستني، حدَّثني، علِمتُني كائنٌ غريبَ الأطوار ملئٌ بالتنافر، تطحنني الأسئلة وتمزقني التناقضات، ترِنُّ في داخلي دوما ، تؤرقني أفكاري، تهدني، تتعبني، إلى جانب الخالدين بكتاباتهم التي تركت أبدع نقشٍ على جدوع أشجار باسقة في بنيتي الذهنية ، ملأت بستان قلبي بالمعارف والمغارف ..
دفنت نفسي في غياهب الشجون وتعاليت على مستنقع السُّجون ، لحظات قُدسية بدون قدُّوس ، وحدةٌ مع الوجود، بلا رحمة ولا شفقة ولا مدد أو نعمة من ناسوت أو لاهوت … بألفاظ محمود درويش “أنقذتني من الموت زنزانتي.. ومن صدأ الفكر .. على فكرة منهكة .. وجدت على سقفها وجه حريتي …”، المعرفة وحدها التي تعلمنا الورع، والاعتدال، والإتزان ، وعظمة القلب ، وصلابة الموقف، تنتشلنا من الظلمات وتفتح لنا أبواب كل الأشياء السامية، لا يكون كل مايشعرنا بالتحسُّن جيداً لنا بالضرورة، كما لا يكوُ كل ما يؤدينا سيئاً …
(في السَّجن تصبح الذاكرة عدوّاً وصديقاً في آن واحد، بتعبير منديلا) . في الزنزانة نتذكر صديقات وأصدقاء، فنسعد بالذكرى ونفرح، ويخطر بالبال آخرين كعاصفةٍ تهبُّ في عصبونات الدماغ ، فتشمئزّ أنفسنا من تفكُّرهم ومعرفتنا إيَّاهم ، يغمُرنا النَّدم على اضاعة بعض وقتنا الثَّمين خدمة لمصالحهم … ولا أنكر هناك من ظلمناه أو أخطأنا في حقه وأسأنا إليه (إليها) وربما عن غير قصد أو قصد ، ورغم ذلك نتذكرهم ، فتحضُرنا ابتسامة لطيفة لما لنا معهم من ذكريات جميلة راسخة في الذهن وتفرض نفسها بإلحاح ، عندما ذقت مرارة الشر علمتُ أن هؤلاء لم يلحقِوا بنا أي أذى … تفاهات الحياة تشعل نار الخصومة لأبسط الأشياء ، ومع مرور الوقت نكتشف دونية تلكم الدوافع والأسباب ، على كل حال ، التاريخ ينصف أحد الأطراف، فتظهر مظلوميته (ها) ، ولو بإحساس فقط ينتابنا في لحظة صدق مع الذات أو رهافة في الشعور، كلها أشياء راودتني وراء القضبان …
وفي الأخير، أيجدُر بي أن أشتكي من تلكم الوحدة العظيمة؟! أيحقُّ لي أن أعكّر صفوكم بعد هذا البوح الصادق؟! أتنفع تفاصيل لم تعد لها أيُّ أهمية عندي ؟! أبعد كل هذا أيجوز لي أن أحكي ما حصل بالضبط قبل الاعتقال؟! أمن اللائق أن أتحدث عمى جرى ؟! أليس من التناقض أن أهاجم مؤسسات دافعت عليها في وقت سابق بصفتي مغفّل أو كذَّاب ؟! الكل يعلم أنني لم أكن أدعي النضال في يوم من الأيام ، أيستوي أن أرتدي ذلكم الجلباب وأقول كل شيء الآن؟! إذا فعلت ألن أُخاطر بنفسي مرة أخرى؟! أليس المعرُوف لا يعرّف؟!
باختصار شديد : لقد وُجب علي أن أغيب، فُرض علي أن أتوارى، لم أعُد مناسبا … لست وفيّاً كالكلب ، ورُبَّما أصبحت مصدرَ خطرٍ على طعامِ الكلآب، ولذلك كان الفِداءُ بذِبحٍ عظيم ، والمكر والخداعُ أسلوباً روتينيا في الذَّبح، وحتى تكون طقوس عيد الأضحى عندهم على المذهب المغربي الذي أعرفه جيَّداً ، أعطي الأمر كي تعزف صبيانهم ، ويكثُر نهيقهم، ضجيج بعوضهم ، بهرجة ذباب القاذورات من أهل السبقِ والسَّباق ، إنها ثقافة المنحطين وأعمال العبيد عندما يصاب أسيادهم بجرح نرجسي،( الرِّعاع )وهذه أخفّ عبارات يمكنني استعمالها .
الكلُّ يعلم المجتمع الواعي وليس القطيع أن حملات التضليل التي قادتها بعض وسائل الإعلام الرعناء الحمارية الهوجاء، اللئيمة، الصفراوية، ليست إلا دليل للبراءة ، كلّما هاجهت شخصا إلا وكان وراء القضية لغزاً ، ما أفضعه سلاح وما أخبث مستعمليه، لقد تركت لكم الاستقواء على “ولاد الناس” بلغة تمغرابيت ، والريادة في الجشع والأنانية والمصالح الشخصية، والعجب والنفاق والوقاحة والكذب والإغراء… إليوم مفاتيح السّجن بأيديكم وغذا عند غيركم
عموما، حياة الإنسان تنبني على مبدأ اللاثبات، التبدُّل الدائم في الأحوال هو الأساس الذي ينبني عليه الوجود، فمن سلِم من نائبةٍ كالسِّجن مثلا ، صادفته أخرى أقسى وأمر…، وخيال الحياة أكبر من خيالنا ، ومن يتشفى اليوم تشطح به غذا أو بعد غد …
وتلك الأيام نداولها بين الناس …