الإتحاف ببعض مناقب الفقيه وفقيد العلم سيدي أحمد الوكيلي المغربي الاكماري
Ma24tv: ذ.عبد العزيز الرازقي: من طلبة الشيخ احمد الوكيلي
هذه بعض الشهادات لمن عاشر الشيخ سيدي احمد الوكيلي وباحثه وخصه بأمور كثيرة:
كان الشيخ العلامة سيدي أحمد بن لحسن الوكيلي الأگماري رحمة الله عليه ذا علم واسع في علوم العربية كما في علوم الشريعة، فقد كان جامعا بين الحفظ المتقن والدراية الراسخة لما قد جمع فأوعى من كثير المنظومات والتآليف اللغوية والشرعية، وإلى جانب غزارة علمه وسعة اطلاعه وطول باعه في المعرفة يتميز بمكارم الأخلاق وحسن الخصال وجميل الفعال، وإليكم بعض الومضات من جوانب شخصيته العلمية والعملية:
أولا: شخصيته العلمية: يتميز الشيخ رحمه الله بعلمه الغزير حفظا ودراية ودرسا .
أ_ من حيث حفظه :
فهو كغيره من علماء سوس وفقهاء مدارسها العتيقة كان حافظا للقرآن الكريم حفظا متقنا على يد أخيه الأكبر سيدي محمد بن لحسن الوكيلي _ أمد الله في عمره_ منذ نعومة أظفاره.
و حفظ في النحو والصرف ألفية ابن مالك ولاميته ومنظومة الزواوي في الإعراب ومعاني الألفاظ ومنظومة الجمل فضلا عن متن الأجرومية في مبادىء النحو والخزرجية في العروض ومتن ابن كيران في الاستعارة وغيرها، ومن حيث اللغة المعجمية فهو من حفاظ القاموس المحيط للفيروزابادي ومختار الصحاح للرازي.
وفي مجال الأدب والشعر يحفظ الكثير من أشعار الحكم وغيرها من مختلف المواضيع والأغراض فضلا عن الشواهد النحوية والقصائد الأدبية المعروفة كالمعلقات السبع والقصائد المشهورة للمتنبي وأبي فراس الحمداني والبحتري وابن زيدون وقصيدتي البصيري الشهيرتين في المدح النبوي ولامية العرب ولامية العجم للطغرائي ولامية ابن الوردي والشمقمقية لابن الونان والديوان المنسوب للشافعي وغير ذلك.
وفي الحديث يحفظ صحيحي البخاري ومسلم وموطأ مالك حفظا تاما و ألفية العراقي والبيقونية كما يحفظ في الفقه متن الرسالة ومختصر خليل بالإضافة إلى العاصمية والرسموكية في فقه المواريث ومتن ابن عاشر في مختصر العقيدة الأشعرية ومشهور مذهب مالك في العبادات، والمنظومة السملالية في الحساب، ومما تجدر الإشارة إليه في هذا المقام أن حفظ الشيخ كان ممتازا بالدقة والقوة بدءا بالقرآن الكريم وانتهاء بكل ما حفظ بعده من المنظوم والمنثور.
ب_من حيث درايته وفهمه ودرسه :
كان رحمه الله ذا معرفة واسعة في العلوم اللغوية كما في الشرعية، وكانت معرفته تتميز بالدقة والجودة في الإدراك والفهم جميعا فقد كان واعيا مدركا إدراكا وافيا لما قد حفظه من المتون العلمية المنظومة والمنثورة ، يرجع ذلك إلى قوة وحدة ذكائه من جهة وإلى اتصافه بخصلة الإتقان وحب التفاني والجدية في العمل من جهة ثانية وإلى حبه وشغفه بالعلم والعرفان من جهة ثالثة حيث يتصف بقوة نزعته للدراية والميول نحو طلب المعرفة والاستزادة في العلم، إذ لم يكن الدافع له في المجال العلمي والدعوي غرض دنيوي من تكسب أو شهرة، وإنما يظهر تميزه المعرفي لمن تلقى على يديه لأنه كما هو معلوم لا يحب الظهور فضلا عن التظاهر، لكنه على مدى أربعة عقود تفرغ للتدريس والمطالعة وتخرج على يديه غير قليل من طلبة العلم الذين اشتغلوا اليوم مهام ووظائف كالإمامة والخطابة والتعليم.
ويقصد إليه أساتذة وأصحاب شهادات عليا من أجل الاغتراف من معين معارفه اللغوية والشرعية لشهرته بين طلبة العلم بدقة معارفه وتفرد أسلوبه في العرض والبيان فضلا عن جم تواضعه واحترامه لطلبته مع جلالة قدره و ضلوعه وتفوقه حفظا وفهما، وهكذا يرى من يحضر إلى مجالسه العلمية ما لا يخفى من حدة وقوة حفظه واتساع مداركه، ومن آيات حفظه المتقن أنك ترى سرعة استحضاره لمحال الشاهد من المنظوم والمنثور كما يتجلى لك وعيه وفهمه العميق من خلال شرحه للتآليف وطريقة درسها وبيانها بأسلوب هين سلس أخاذ، فلم تكن معالجته للمفاهيم سطحية كما بالنسبة لبعض المتعالمين الممتهنين لوظيفة “الفقيه” في بعض المدارس بل كان درسه يلمس العمق المعرفي مشبعا لبغية المتعلم المتذوق اللهفان ومحققا لطلبة عاشق المعرفة الولهان.
وتراه ينقد ويفحص بعض المفردات اشتقاقا وصرفا وإعرابا كما يكون له نظر وتوقف واستثارة اشكال أحيانا لبعض الكلمات أو العبارات والصيغ لأصحاب المتون شكلا ومضمونا حينما يخضعها لمقتضيات القواعد التي درسها مما يدل على استمساكه بناصية العربية وحيازته لملكة لغوية قوية وحس نقدي مرهف فريد .
وعرف سيدي البوكيلي بجديته المتناهية في الشرح والبيان والاهتمام والاحترام البالغ لطلبته خاصة إذا آنس منهم أو من بعضهم اهتماما ورغبة فكان يحب النقاش ويتقبل الاستفسارات و التساؤلات ويثني على السائلين والمثيرين للحوار المعرفي ويفرح لذلك كثيرا فيتوقف للبحث في كلمة ويعرج عليها لغويا وصرفيا ويحضر ما يملك من المظان والأسفار لتقليب النظر واستقصاء البحث، لأنه إلى جانب درايته بعلم الصرف والنحو دراية وافية، يحظى برصيد لغوي واسع من حيث المفردات والألفاظ المعجمية، فهو من حفاظ القاموس المحيط للفيروزابادي ومختار الصحاح للرازي كما ذكرنا آنفا ومطلع على بقية المعاجم الأخرى وله مقدرة في التمييز بين الكلمات العربية الأصيلة والدخيلة بحكم سعة اطلاعه ومعرفته بفقه اللغة.
ومما ينم عن توسعه في الدرس اللغوي أيضا قدرته على نفي انتساب لفظ معين للعربية بمجرد أن يطرق سمعه من جهة وسائل الإعلام أو بسبب زلة لسان أو خطأ من أجل قلب حروف كلمة أو ما شابه.
و يستطيع فقيهنا أن يحكم على وجود خلل ولو خفي في وزن بيت شعري بمجرد سماعه، كما لا يفوته في كل درس أن يدرج موضوعا اجتماعيا أو أخلاقيا أو تربويا يشير إليه بلمسة فنية وبأسلوب الطرفة وروح الدعابة التي كان يتميز بها في مجالسه إلى جانب جديته في التحليل والإغراق في بحر العلم، مثلما تحضر النكتة الصرفة اللطيفة الواقعية أو الأسطورية الخيالية من أجل تدعيم التعلمات بما يقتضيه المقام ويتناسب مع الموقف ومن أجل كسر الرتابة وتجديد النشاط واستعادة التركيز ولفت الانتباه وله في ذلك أسلوب متميز ومرح ومريح مثلما لدرسه من الخفة على البال والجنان وسرعة انقضاء الوقت والأوان من لذة الاستمتاع والانتفاع.
وإلى جانب حسه الدعابي وخفة دمه وظله في أسلوب وطريقة درسه في شرح المتون العلمية والقصائد الأدبية يمتاز درسه بالدسامة العلمية والعمق المعرفي حيث يوظف ويستدعي كثيرا من المعارف وأحيانا يتشعب ويستطرد بما يشبع بغية الطالب النهم توازن و توسط بين الاطناب والإسهاب الممل والاختصار والاقتضاب المخل، ومن كراماته وبركاته أن كل المعارف والعلوم التي حازها وحصلها حفظا ودراية كان أغلبها تعلما ذاتيا لأنه رحمه الله خرج من المدرسة العلمية مبكرا قبل متم العشرين من عمره وكان ذلك في أواخر سبعينيات القرن الماضي حينما أخذ على يد الشيخ سيدي الحاج الحبيب بمدرسة تنالت في أواخر سنوات عمره ولعل ما رزق شيخنا من الفضل كان من بركة ذلك الشيخ .
وهكذا يبدو لنا أن تحصيل شيخنا كان ذاتيا لما يتميز به من حب للمعرفة منقطع النظير إذ عصاميا ذاتيا في تكوينه، ولعله لو أطال المدة في المدارس العتيقة أو خرج وسافر للطب في بلدان شرقا وغربا لكان له شأن أكبر وشأو أعظم.
ثانيا: شخصيته العملية والأخلاقية:
مثلما لعلمه صيت وذيوع في أرجاء سهل سوس كان لنبل أخلاقه وجميل خصاله وخلاله شهرة وانتشار بين طلبة العلم والعلماء والعوام جميعا.
و يعد من بين علماء سوس وفقهائها وأئمتها وخطبائها المتميزين بلين عريكتهم و بسلامة جنابهم وسمعتهم من ألسنة أشد وأعتى المتكلمين والمنتقدين والخائضين في أعراض الناس المتخصصين في الجرح والتعديل والتصنيف والتضعيف_ وما أكثرهم في دنيا الناس وقانا الله وإياكم شرهم وردهم إلى رشدهم.
وتجد من له مآخذ على غيره لا يملك إلا أن يشكره ويذكره بما هو به جدير وحقيق ويستثنيه من جملة من يصفهم بما لا يليق يستوي في ذلك منهم المخالف والمؤالف، وهذا بفضل ما جعل الله له من محبة وقبول حسن في قلوب الناس، إذ كان زاهدا فيما في أيديهم فكان عفيفا كفيفا لا يحب الزيادة في عرض الدنيا ولا يتزلف للأغنياء من أجل بلوغ الأغراض ولا نيل الأعواض، بل يجالس الفقراء وعابري السبيل ممن يأوي إلى مدرسته فيدعوهم للطعام، ولو كان أحدهم من النكرات فيجالسه ويشاركه المأكل والمشرب ويتواضع له تواضعه لغيره.
وأما معارفه من أقاربه وبلدييه وغيرهم فإنهم يحظون عنده بحفاوة وترحاب كبير ومقام طويل فكان يلح على الزائرين بالبقاء وعدم الاستعجال بالذهاب، وقد رأيت من لبث عنده الأيام والليالي ذوات العدد دون أن يشعر منهم بثقل ولا ملل ولا كلل ، وكان ينفق على زائريه من ماله ما شاء الله أن ينفق وقلما يمر عليه يوم بدون أضياف ويعتبر ذلك استثناء، وحتى إن حدث ذلك دعا بعض طلبته ليشاركوه الطعام لشدة اعتياده على الضيوف، وقلما يمر يوم دون أن يحضر مائدته ولو شخص واحد، وفي غالب الأحيان شخصان فأكثر إلى عشرة فما فوق يحضرون غدوا وعشيا فإن لم يكن ضيوف زائرون ولا طلبته دعا ناسا من جماعة دواره وحدانا أو جماعات.
وكان إلى ذلك يهدي ويتصدق بماله على بعض الزائرين ممن آنس منهم حاجة وفاقة من حفظة القرآن وغيرهم، كما يطرق بابه كثير من الفقراء والمساكين والأرامل والنصابين أيضا لما عرف به من إسداء المعروف وإغاثة الملهوف والإعانة على نوائب الدهر وعدم رد السائلين وعدم البخل بما يجد.
وكان يتعفف عن الحضور إلى عشاء ميت الأرامل والفقراء وكثيرا ما نبه و أنكر في مواعظه على من يقيم سلكة الوفاة من الذين لا يجدون ما ينفقون وخاصة من الأرامل ذوات الأيتام، وإن له مواقف عجيبة ونادرة في مجال الكرم والزهد في الدنيا غير الذي ذكر ، ومن مظاهر صلاحه وكريم خلقه إمساكه عما شجر بين الناس في العقيدة وما اختلف فيه بين المسلمين وعدم الخوض في ذلك.
بل يظهر كرهه لمجرد سماع القول فيه لانعدام العمل تحته وخاصة الخلاف الشيعي السني والوهابي السني وما شابه ، وقد أسهم ذلك في خظوته لدى كل الأطياف والفرق فنال محبة الجميع من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال فتجد المتشدد الوهابي يزوره ويحبه مثلما يزوره الصوفي وما بينهما من العلماء والعوام،.
وكان لسانه سليما من الغيبة ويكره من يذكر عنده الناس بسوء وكثيرا ما يقلب الحديث عنه إلى امتداح ومنافحة عنه ونصرته ، وكان على العكس من ذلك يحب أن يثني خيرا على ذوي الفضل والتغاضي عن زلاتهم وكان رحمه الله ذا سمت حسن ويحب أصحاب الهيئة الحسنة في الملبس والاعتدال في الحال والمقال.
ومن أخلاقه أيضا تحليه بالصبر على الأقدار وتحمل أخلاق من لا خلاق له وخذلان الخلان ، وقد بلغ من صبره مبلغ التضحية بحيث قدم للناس من وقته وماله وعلمه على حساب صحته وماله وأهله، فأعطى ولم يأخذ فكان دائم الاحتراق من أجل الاستنارة والإشراق.
ومن إخلاصه في عمله وعلمه أنه يشتغل ويعمل في صمت وهدوء وتحت الظلال بعيدا عن أضواء الشهرة والظهور وكان إلى غير هذا يتحلى بخلق العدل والإنصاف وحب الحق وكراهية الباطل فكان لا يحابي من رأى أنه أخطأ في رأيه فيناقشه بأسلوب لين معتدل دون جفاء أو غلظة، كما يتميز بوجه طلق والتزام التبسم في وجوه الناس.
وكان مع هذا كله ذكيا في تصريف أخلاقه فليس مغفلا ولا غمرا يسهل استغلاله بل يتميز بالذكاء الحاد والفطنة ومنتهى التيقظ، لذلك يحظى بعزة النفس وكرامتها فهو متواضع في عزة وعزيز في تواضع، وقد جعل الله لكل شيء قدرا، ولذلك لا يحظى منه الوشاة بشيء مما يبتغون من تشويه سمعة خصومهم ممن يحبهم ويقدرهم الشيخ بل يصفعهم بنصرته والذود عن حياضه ورياضه فلا يترك لهم المجال للإساءة إلى الناس بين يديه بل يقلب عليهم الطاولة إلى المنافحة عنه والذكر الحسن في قالب لغوي لطيف مع ابتسامة وطلاقة وجه وبقول لين.
وكانت مواقفه السياسية والاجتماعية في غاية من الاعتدال والرؤية السديدة الموافقة لثوابت الدين والوطن جميعا وكثيرا ما يثني ويترحم على الملك الراحل الحسن الثاني فكان يغلب منطق ومبدأ الاستقرار في القضايا محل النزاعات والنقاشات الدولية والوطنية، ومن أجل كل هذه الخلال وغيرها حظي بمحبة الناس ويتميز بقلة وربما انعدام الخصوم ولن تجد إلا من يثني عليه خيرا كثيرا، ولعمري إن هذا لمن سمات الصلاح والفلاح التي يرومها كل ذي لب ومسكة عقل، فنرجو أن يكون ممن أثبت لهم النبي صلى الله عليه وسلم الجنة بسبب ثناء الناس عليهم وأن يلحقنا بهم صالحين.